الخميس، 23 يوليو 2015

محمد محمد خميس

أهمية هذه القصة تنبع من كونها حدثت فعلًا، أما لو كانت مختلقة فهي تحوي الكثير من المبالغة والسخف.  الحياة أكثر جرأة من الأديب، وتفعل أي شيء في أي وقت كما تريد. الأمثلة تفوق الحصر.. محمد محمد خميس..  يقف هناك أمامي في عيادة الجراحة المزدحمة.. في الستين من عمره.. الفلاح المصري التقليدي الفقير الذي ترعرعرت البلهارسيا وازدهرت من جسده.. الجلباب الممزق، والعينان اللتان غلفتهما سحابتان رماديتان.. القدمان المغلفتان بجورب سميك من (القشف) المتشقق.. نظرة البؤس المريرة والصبر من عهد أمنمنحات الثالث. "محمد محمد خميس" هو الاسم مستعار طبعًا لكنه قريب من الأصل جدًا. ـ"بطني يا بيه" أنا طبيب الامتياز عديم الخبرة المذعور، أكتب له بعض المهضمات.. فيخرج نحو الباب، ثم يستدير كأنه تذكر شيئًا، قائلًا لي وهو يشير لعنقه: ـ"وأعمل ايه في دي؟" هنا رأيت الكابوس في جذور عنقه على اليسار.. الغدة اللمفاوية التي يسميها الأطباء فيرشاو Virchow  وأعتقد أنها تُنطق فيرخوف.. أستاذ علم الأمراض النمساوي الذي كان يُدرس لفرويد شخصيًا. اليسار فوق الترقوة.. هذه هي! ومن آخر الحجرة سمعت الطبيب المقيم يصيح في الوقت نفسه: ـ"يا نهار اسود!!" غدة فيرشاو أو فيرخوف معناها ببساطة أن المريض مصاب بسرطان متقدم في بطنه .. معدته على الأرجح. وهذا يعني أنني كنت سأكتب مهضمات لمريض سرطان بسبب قلة خبرتي. تم كل شيء بسرعة ودخل عم محمد خميس قسم الجراحة، وتم عمل أشعة بالباريوم –قبل عصر المناظير– فتبين أنه مصاب بسرطان متقدم منتشر في أسفل المريء.   عامة لا يجرون جراحة  لحالات كهذه، ويتركون المريض يعود ليموت مع أهله، لكن أستاذًا مسنًا في قسم الجراحة كان مهتمًا بهذه الجراحات. نحن بحاجة لدم.. الكثير منه.. دخل محمد محمد خميس في دائرة البحث عن دم.  لأسبوعين يأتي ابنه المذعور الأكثر نحولًا ليعلن أنه لا يجد دمًا. في النهاية تمكننا –بعلاقاتنا مع فنيي المختبر- من تدبير ثلاثة أكياس من الدم له (لتر ونصف). يقول لي عم محمد: ـ"نفسي نعمل العملية يا بيه وارجع آكل تاني" فأؤكد له أنها ستتم وستكون ناجحة، عالمًا أن فرصة هذا البائس في أن يعيش للشهر القادم صفر.. سواء بجراحة أو دون جراحة.. يتأهب للعملية في الغد. وحيدًا يجري لنفسه حقنًا شرجيًا ويجهز نفسه.. يقابلني في الممر وهو يحمل الحقنة الفارغة فيقول بصوته المكتوم: ـ"نفسي نعمل العملية يا بيه وارجع آكل تاني" في الصباح يعلن الجراح الكبير إنه اكتفى لهذا اليوم.. لا جراحات.. هكذا يتم تأجيل عم محمد محمد خميس لأسبوع آخر.. لا مشكلة.. السرطان قد توغل في جسده أصلًا فلن يضره بعض التأخير. عم محمد محمد خميس يجهز نفسه لجراحة الغد من جديد ويعطي نفسه حقنًا شرجية، ويقول لي: ـ"نفسي نعمل العملية يا بيه وارجع آكل تاني" في اليوم التالي يتم تأجيله. مزيد من الحقن الشرجية. وبعد أسبوع آخر يدخل الأستاذ الكبير غرفة الجراحة ويعلن: "هاتوا مريض سرطان المريء". يرقد عم محمد محمد خميس غائبًا عن الرشد بينما نحتشد لنرى ما يحدث.. الجراح الكبير المسن يشق الجلد تحت الضلوع، ثم يتذكر أنه هذا هو الاتجاه الخطأ فيغير اتجاه الجرح.. يتبادل الجراحون نظرات صامتة.. خطأ قاتل لكن لا أحد يجرؤ على الاعتراض. الساعات تمضي.. يتم استئصال جزء من القولون وتفريغه من البراز وغسله، ثم يزيلون المرئ ويخيطون القولون مكانه.. الساعات تمضي.. الدم ينقط في عروق الرجل... بعد الجراحة أسأل الطبيب المقيم عما يجب أن أفعله للرجل عندما يفيق، فيقول في مرارة: ـ"انت فاكره ممكن يفوق بعد العك ده؟" الكل يتحدث عن هذا الجرح العجيب. هناك قرار من مجلس القسم لمنع الجراح الكبير من دخول غرفة العمليات ثانية. عم محمد محمد خميس صار سلاحًا للحرب السياسية بين خصماء القسم. في الوقت نفسه تقول لي الممرضة إن الجرح انفتح وتحول إلى ناصور. الرجل يرقد في الفراش صابرًا وبطنه مفتوحة .البراز يخرج  من الجرح.. أقوم بتطهير الأمعاء نفسها وأراها -بلا مبالغة- تهرب مني كثعابين مذعورة.. تتوارى خجلًا في جانب الجرح. ابن الرجل يقول لي: ـ"ابويا كويس.. بس المشكلة إنه لما بيشرب ببسي بتخرج من رقبته!!" الممرضة طيبة القلب تنصحني بألا أجري الغيار على الجرح؛ حتى يموت عم محمد محمد خميس ويستريح..  قال لي صديقي طبيب الامتياز: ـ"مش قادر أدخل العنبر بالليل.." ـ"ليه؟" ـ"الراجل ده راقد طول الوقت بيبص لي بعينه البيضا المتهمة دي.. مش قادر أبص في عينه.. مش بيتكلم.. مش بيتألم.. مش بيقول حاجة.. أنا خايف منه!". بالفعل أدخل للرجل الراقد.. ربط الكوفية في قدم السرير ويستعملها كمصعد يشده ليتمكن من الجلوس. السحابة على عينيه تجعلهما كأنهما تضيئان في الظلام. لقد صار عم محمد محمد خميس تمثالًا للمعاناة التي حطمت حدود الجسد.. تمثال الصبر الذي نحته أعظم نحات في التاريخ.. لا يشكو ولا يتألم، ويحمل معاناة الفلاح المصري البائس من أيام حتب حرس... ـ"المشكلة يا بيه إن البراز بيخرج من صرته.. والببسي بيخرج من رقبته!!" يقول الابن... لا أعرف كيف انتهى هذا الكابوس.. بشكل ما انغلق الناصور وجاء اليوم الذي جاء فيه أربعة رجال يشبهونه في الفقر والنحول والملامح، ليحملوه عائدين لقريته.. خطر لي أنه كان من الأفضل أن يموت بالسرطان ميتة أنيقة سريعة بلا معاناة.. أحيانًا يبدو الطب سخيفًا وبلا جدوى.. بعد شهرين.. أنا أدرس في قسم الأمراض الباطنية، حيث وجوه جديدة ومشاكل جديدة.  أعود لقسم الجراحة لأحيي زملائي القدامى. هناك توتر غير عادي.. ممرضات يصرخن.. غم وهم.. ماذا حدث؟ الأستاذ الكبير المسن الذي أجرى جراحة عم محمد محمد خميس قد مات صباح اليوم بنوبة قلبية، وجنازته ظهر اليوم. لا إله إلا الله.. غادرت القسم وأنا استرجع شريط ذكرياتي عن هذا الأستاذ. فجأة وجدت أنني أقف أمام عم محمد محمد خميس!!.. نفس الفقر والنحول والبؤس والعينين الزجاجيتين لكنه سليم.. لكنه حي!! وكان ابنه المذعور جواره يضحك. قال لي في حرارة: ـ"أنا الحمد لله خفيت يا بيه.. بس فيه مشكلة مضايجاني.. الببسي لسه بيخرج من رجبتي!". ووجدت أنه ربط عنقه كأنه يسد هذه الثغرة .. قلت بصوت مبحوح: ـ"الجرح عاوز وقت يا عم محمد.. جايز الدكاترة يخيطوه لك تاني". نظر في فضول إلى حالة التوتر العامة من حولنا، فقلت له إن دكتور (فلان) الجراح الكبير قد توفي . نظر لي ثم هز رأسه وقال: ـ"الله يرحم أمواتنا كلهم.. ما اعرفهوش!". واستند إلى ذراع ابنه ومشى يترنح داخلًا القسم...

المصدر - موقع اليوم الجديد

فتى الليمون

رئيس أوروجواي المحبوب خوزيه موخيكا نموذج للمناضل اليساري الشريف بالمعنى الحرفي للكلمة، فهو قد تولى الرئاسة عام 2010. ومنذ البداية أجرى إصلاحات اقتصادية كبيرة في أوروجواي، بعضها جريء، وبعضها غريب مثل إباحة الاتجار بالقنب الهندي – الحشيش عدم المؤاخذة -  وقد اشتهر بأنه أفقر رئيس جمهورية في العالم، لأنه يتبرع بتسعين في المئة من دخله الشهري للجمعيات الخيرية.  أي أنه يقبض 12 ألف دولار يحصل منها فعلًا على نحو ألف تقريبًا، وهذا وضعه فعليًا في طبقة الفقراء في بلده. سيارته فولكس متهالكة موديل 1987، ويعيش في بيت ريفي،  وبالطبع ليس له حساب مصرفي. هذا رجل يصعب علينا في العالم العربي ان نتصور وجود مثله، وهو يذكرك بقصص الخلفاء والحكام الصالحين المتقشفين في تاريخنا العربي.
ليس هذا موضوع المقال على كل حال..
الموضوع هو صورة رأيتها له يجلس في استقبال مستشفى عام وسط المرضى، وينتظر دوره للكشف بنفس التعاسة والتوتر والاستسلام للمكتوب الذين نراهم في مرضى العيادة الخارجية المجانية عندنا. أعرف أن تعليقي سوف يثير غضبك، لكني بالفعل شعرت بلمسة ما من الافتعال والمبالغة في تصرفه هذا.. نزعة مسرحية درامية لا داعي لها، مع أنه سوف يفيد بلاده أكثر لو كشف في مستشفى يناسبه كرئيس، وبشكل منفرد ودون أن يضيع وقته الثمين. هذا لن يبدد أموال الشعب بل هو أكثر قيمة على المدى البعيد. الحياة تزداد تعقيدًا وليس معنى خفض النفقات والتقشف أن يتداوى رئيس البلاد في مستشفى مجاني، وينتظر دوره بالساعات. هناك وضع وسيط حتمًا بين أن يتسول رئيس الجمهورية العلاج، وبين أن يكتشف أن أحد اظفار قدمه أطول من الآخر فيذهب للاستشفاء في سويسرا على حساب المواطنين.
بالطبع قد أعطى موخيكا أكثر من دليل سابق على صدق نواياه وعلى إخلاصه، فليس في الصورة ادعاء ولا نفاق، لكني أرى فيها بالتأكيد الكثير من المبالغة.
ثمة مواقف درامية لا تريحني.. بعضها أرى فيه حمق المبالغة، وبعضها أرى فيه ادعاء ونفاقًا..
مثلًا تلك القصة الشهيرة التي نشرتها الصحف منذ أعوام، عن انتخابات تمت في نيويورك، على أثرها تم تعيين مدير جديد لإدارة المرور.. نزل المدير الجديد للشارع ليتذكر أن سيارته تقف في الممنوع قبل بدء الاجتماع.. هكذا كان أول قرار اتخذه في منصبه الجديد هو أن حرر مخالفة ودفع لنفسه غرامة..
يحلو للناس أن يذكروا هذا الموقف كنموذج للالتزام واحترام القانون، بينما أراه موقفًا مسرحيًا فيه مبالغة زائدة.. دعك من السؤال المهم: لماذا أوقف سيارته في الممنوع منذ البداية؟
هناك قصص عن الزهد والبدء بالنفس أبطالها الأنبياء والصالحون والصحابة والأولياء، وهذه قصص موثوق في نوايا أبطالها طبعًا، وليست ما أتكلم عنه هنا.
في طفولتي اعتدت أن أبتاع الليمون بعد كل صلاة جمعة من بائع يقف خارج المسجد مباشرة، وفي ذات مرة اكتشفت أنني أخذت ليمونتين زائدتين (سعرهما وقتها أقل من خمسة ملاليم).. عدت للرجل بعد أسبوع وقلت له بصوت متهدج إنني أخذت ليمونًا زائدًا منه ، فابتسم وهز رأسه قائلاً:
ـ"يا رااااجل!"
ولوح بيده لأنسى الأمر. الأمانة شيء جميل، لكن تصرفي لم يخل من مبالغة، دعك من إنني بالفعل كنت أشعر بتيه وإعجاب بنفسي شديدين، كأنني صرت من الصحابة. ورحت أتخيل البائع يحكي القصة لزوجته ورفاقه، ويحدثهم عن الطفل الصغير الذي يرد الأمانة لأهلها. عدت لبيتي شاعرًا أن الناس يتوقفون في الشارع ليرمقوني في انبهار وإجلال: فتى الليمون العظيم.
كل مواقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه تستدعي التأمل، وهناك قصة شهيرة له عندما رأى رجلًا في السوق يحمل تمرة وينادي صارخًا: "لقد وجدت تمرة فمن صاحبها"؟ فعلاه بالدرة وقال له: "دعك من هذا الورع الكاذب!". قرأت في مصدر آخر أنه قال له "كُلها يا مدعي التقوى!".
الرجل يظهر كل هذه الأمانة من أجل تمرة.. بينما لو وجد كيسًا مليئًا بالذهب لأخذه بلا تردد، ولن يمشي سائلًا عن صاحبه في السوق. الدليل هو أنني أقرضت الكثيرين في حياتي، لكني لم أسترد مليمًا واحدًا من أي شخص حتى هذه اللحظة!.. بالتأكيد هم جميعُا يبحثون عن صاحب التمرة حتى يبح صوتهم.
كلما كان الاختبار صعبًا أمكنك أن تدرك مدى صدق الرجل ونبله.. سائق سيارة الأجرة الطنطاوي الذي وجد ربع مليون جنيه على المقعد الخلفي فسلمه للشرطة ليس مرائيًا.. هذا رجل قل أن يوجد.
ثمة قصة أخرى عن رجل من العراق جاء لابن عمر وقت الحج يسأله عن بعوضة قتلها، فهل عليه دم أم لا؟! فقال ابن عمر: "سبحان الله، تقتلون ابن بنت رسول الله (أي الحسين بن علي) وتسألون عن دم البعوض!".
هناك كذلك نوع من التواضع يشي بالغرور.. وثمة مقولة ذكية لجولدا مائير إذ قيل لها إن أحد خصومها السياسيين متواضع، فقالت: "يا سلام!.. هو ليس مهمًا لدرجة أن يتواضع!".  شيء يشبه هذا قاله دكتور جلال أمين عندما كان يطالع مذكرات رجل قانون شهير ووزير سابق. قال إن الكتاب يحمل عنوان (قصة حياة عادية)، فرأى دكتور جلال الموقف من زاوية غير مألوفة كعادته، وقال إن هذا يوحي بوضوح أن المؤلف لا يعتبر قصة حياته عادية بتاتًا. وفي صفحات الكتاب يقول المؤلف عن نفسه: "ذهب الفتى.. رأى الفتى.. الخ". يقول دكتور جلال بمنطقه الحاد القاسي: "البعض قد يرى في هذا تواضعًا لكني أراه العكس!". ولا شك أن هذا يذكر المؤلف بالفتى مهران أو استخدام د. طه حسين للفظة (صاحبنا أو الفتى) في كتاب الأيام.
قطعًا لا أتهم أصحاب هذه المواقف بالنفاق أو الادعاء؛ فلا يعرف السرائر إلا الله، ومن الصعب الحكم على النيات،  لكني قطعًا أتهمهم بالمبالغة والحس المسرحي الزائد..

المصدر - موقع اليوم الجديد